محمد ابو عيد
لا أعلم كيف كل عام وفي فترة ذكرى إغتيال الأسير حسن الترابي يتسلل ذلك الشعور الذي يدفعني حد التفكير في جدوى كل ما يدور في هذا الفضاء الواسع. كان الشاب الفلسطيني المعتقل في سجن مجدو يقطن في القسم المحاذي لنا في قسم 8 حيث كان ذلك الشاب في قسم 5 ويعاني من مرض مجهول كما تقول إدارة سلطة السجون، وكلنا يعلم أن حالة الشاب حسن تتدهور ويعجز عن تقديم ولو أمر بسيط لحسن او للحالات التي تعاني مثله. 4 شهور وحسن يتقلب على اليمين وعلى الشمال من إنفجار الشرايين في جسمه ، تنفجر مرات ومرات وهو يصيح حتى يقوم من معه من الأسرى بالصراخ على الإدارة حتى يأتي جلادون يرتدون أبيض "الحوڤيش" ويقومون بإعطائه المسكنات ولا يقومون بمساعدة أخرى تُذكر.
وفي يوم أقل من عادي خرج الأسرى إلى الفورة ومنهم من كان يشعر في الملل والنعاس فيعتكف في الغرف وعلى البرش الحديدي على التلفاز. أستيقظ وأتفقد الرفاق من حولي وأنظر نحو الخارج وأعود كي أغتسل وعندما أنهي ذلك الروتين المعتاد. أشم رائحة القهوة ويشعل أحد الرفاق السيجارة الأولى ويكون ذلك اليوم أقل من عادي حتى تندلع أصوات من أقسام محاذية لنا، نخرج مسرعين ونرى وحدات القمع الصهيونية (المتسادا) والعشرات من عناصرها يركضون نحو أبواب أقسام الأسرى وفوق المعتقل، أي فوق القضبان التي تقول لنا دائما أنك معتقل وحتى السماء يجب أن تراها من خلال القضبان، يعم الإستنفار في السجن وضرورة أن يلتزم كافة الأسرى الغرف، يصيح أحد الرفاق من داخل الغرفة مخاطبًا القسم المجاور: ما الذي حدث؟
الأصوات تغطي سماء المعتقل أكثر وأكثر ولا يُسمع غير كلمة "الله اكبر" تصدح من عشرات الحناجر ورائحة الغاز المسيل للدموع تنافس الهواء أكثر ، يقول الرفيق مرة أخرى "شو صاير؟" مخاطبًا أحدهم في القسم المجاور، يرد ذلك الأسير في صوت هائل: في أسير استشهد، إستشهد حسن، حسن إنقتل، حسن إستشهد وينهي تلك الكلمة في كلمة "الله اكبر".
يسود الصمت دقيقة لا تقبل أن تمر وكل من في الغرفة ينظر نحو الآخر، نعم كأن لغة مشتركة أستطاع المتواجدون حلها والتفاهم السريع بها، فكل واحدٍ منهم إحتفظ بالذخيرة الثورية في داخله وبين ضلوعه حتى مثل هذه الحبكة الزمنية... قفز كل واحد منهم نحو مقتنيات الغرفة وكأنه إمتشق سلاحه وتَمترس، كان السلاح كل أدوات الغرفة المعيشية من الأواني الحديدية (الطناجر والصحون والمعالق وكل ما توفر من أدوات حتى "المراوح" الشخصية، فعلًا كل ما توفر)، وقف أسير شيوعي فلسطيني وقد إنفلت كل جنون العالم في رأسه على نافدة الغرفة (الشباك المحمي في القضبان) وأعلن بداية الإشتباك في كلمة "الله اكبر" مزلزلاً بها السكوت القاتل ومنذرا بإعلان السلطة الثورية على المعتقل. قرع وتحطيم لكل الأدوات، أرجل تضرب الحديد الأزرق، الطناجر تتحطم بفعل الإرتطام عند قذفها نحو باب الغرفة، الأيدي تضرب الحديد الصلب والمعركة تندلع وتشعر أن حسن يراقبنا من فوق المعتقل ويبتسم وعلى الدماء التي تنزف من الكفوف التي تلاطم المخرز وكأنه يهمس: نعم يجب نستمر يا أخوتي في المقاومة فما للخنوع جئنا.
يدخل أحد الرفاق إلى زاوية الحمام في الغرفة ويشم كمية كبيرة من الغاز المسيل للدموع القادم مع الهواء، ويسقط الثاني من الاختناق والثالث في وسط الغرفة، يا الله ما الذي يحدث! يخرج احدهم ويصرخ على القتلة في الزي الأبيض من شباك الغرف بوجود حالات إختناق، ويأتي هؤلاء ويسحبون الأسرى نحو العيادة تحت تهديد السلاح، العشرات يُسحبون نحو العيادة الحقيرة ومن بقي يتسلل الهدوء التدريجي فيهم تحت تهديد الاختناق، جميعهم ينظر نحو الآخر ولم تبق مهمة للهواء غير نقل الغاز المسيل...
لا تريد أكثر من الهواء
لا تريد أكثر من الهواء والكرامة
تنظر في من حولك وتتفحص، تجدهم يبتسمون تلك الابتسامة التي لا تفهم لماذا خرجت ولماذا يبتسمون؟!
كلهم على أرض الغرفة وكل الأدوات محطمة ولا يستطيعون أخذ الهواء ويقولون في نفوسهم وفي تلك العيون وفي تلك اللغة المشتركة: وإن ذهب حسن فكلنا حسن وإن لم نستطع هذا اليوم فكل الأيام القادمة ستكون حبلى في محاولة إعلان الغرفة "الزنزانة" دولة مستقلة عن الكيان الغاصب. وستستمر التجارب النضالية حتى نستطيع أن نكون على خط كل بطل مثل حسن ذهب نحو حوض البنفسج وحتى إعلان البقعة التي نكون عليها دولة مستقلة ولو كانت زنزانة في عمق الظلام. سنستمر ولو فشلت الكثير من المحاولات ولكن يجب أن نمضي من أجل كل الشهداء وحسن وعرفات وكل من قضى في محاولات إعلان الدولة المستقلة التي ستأتي عاجلًا أم آجلًا بفعل التراكم النضالي وحجم التضحيات المستمرة في سبيلها.
(طولكرم)
إضافة تعقيب